قد تسمع أحدهم يقول ضاحكاً: “أنا أو سي دي” (OCD)، بعدما عدّل إطاراً مائلاً على الحائط أو أعاد ترتيب وسائد الأريكة بدقة. لكن خلف هذا التعبير العابر تختبئ معاناة حقيقية يعيشها الملايين ممن يعانون من اضطراب الوسواس القهري، حيث لا يكون الأمر مجرد حبٍ للنظام أو نظافة مفرطة، بل اضطراب نفسي مُنهك.
الوسواس القهري ليس “صفة شخصية” ولا سلوكاً طريفاً. هو اضطراب عقلي حاد يجمع بين وساوس ذهنية مؤرقة وسلوكيات قهرية تهدف إلى التخفيف من القلق الناجم عنها. الأفكار المتطفلة التي تراود المصاب ليست برغبته، وغالباً ما تتعارض تماماً مع قيمه ومعتقداته.
اضطراب حقيقي خلف الأقنعة
يعاني كثير من المصابين من نمط يُعرف بـ”الوسواس القهري الصامت” (Pure O)، حيث تكون الطقوس داخلية كالتعداد أو محاولة طمأنة الذات. وفي حالات أخرى تكون واضحة كغسل اليدين المتكرر أو التحقق المفرط من الأبواب والأجهزة.
بعض الأمهات الجدد، مثلاً، تظهر عليهن وساوس غير مسبوقة بعد الولادة، تتجسد في أفكار مزعجة عن احتمال إيذاء أطفالهن. رغم أنها لا ترغب بذلك على الإطلاق، فإن هذه الأفكار تلصق بوعيها وتثير ذعراً شديداً، فترد بترديد أدعية أو جمل تطمينية كنوع من “طقس قهري” تهدف به تهدئة قلقها.
أشكال متعددة وأفكار مؤلمة
يصنّف المختصون الوسواس القهري إلى عدة ثيمات شائعة:
الخوف من التلوّث أو العدوى
وساوس الإيذاء أو الاعتداء
وساوس دينية تتعلق بالتجديف أو الكفر
الحاجة المستمرة للتحقق
وهذه الوساوس قد تأخذ شكل صور ذهنية مقلقة، كرغبة لا إرادية في إيذاء من يحب، أو الخوف من الإصابة بمرض قاتل بعد لمس مقبض باب.
ويؤكد الدكتور بول جحا، أستاذ الطب النفسي في جامعة روتشستر، أن الوساوس عادةً ما تكون “دخيلة وغير منسجمة مع الذات”، أي أنها تسبب شعوراً بالانزعاج لأنها تتناقض مع قناعات الشخص وهويته، على عكس اضطراب الشخصية الوسواسية (OCPD) الذي يتماشى فيه حب الترتيب والدقة مع رغبات الشخص.
متى يظهر ولماذا؟
غالباً ما يظهر الوسواس القهري في سن المراهقة أو بداية العشرينيات، وقد يكون له سبب وراثي، خاصة عند ظهوره في سن مبكرة. لكن هذه الجينات قد تبقى “خامدة” حتى يُحفزها حدث مرهق أو تغير كبير في حياة المصاب.
ورغم تشابه أعراضه مع القلق العام أو الاكتئاب، إلا أن طبيعته المعقدة تجعله أكثر إنهاكاً وقد تؤدي إلى العزلة أو الشلل النفسي، مثل حالات يقضي فيها المريض ساعات طويلة في الاستحمام أو التحقق.
هل يوجد علاج؟
رغم أن الوسواس القهري لا يُعالج نهائياً في معظم الحالات، إلا أنه قابل للتحسن بشكل ملحوظ مع العلاج المناسب.
ويشمل ذلك:
التثقيف النفسي: لفهم طبيعة الوساوس وإدراك أن الدماغ لديه ميل لتكرار الأفكار المقلقة.
الأدوية: مثل مثبطات امتصاص السيروتونين (SSRIs)، بجرعات عالية نسبياً.
العلاج السلوكي المعرفي (CBT) وخاصة تقنية التعرض ومنع الاستجابة (ERP)، حيث يُعرض المريض للمثيرات دون أن يُسمح له بأداء طقوسه القهرية.
كلمة أخيرة
الوسواس القهري ليس “مزحة” ولا “نمطاً” من أنماط حب الترتيب. هو اضطراب حقيقي ومعقد يمكن السيطرة عليه بالعلاج والدعم. وفهم طبيعته هو الخطوة الأولى نحو كسر الصور النمطية المحيطة به، والتعامل معه بوعي وتعاطف.